كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَاللَّغْوَ ضِدُّهُ وَالْيَمِينَ اللَّغْوَ سَبْعُ مُتَعَلِّقَاتٍ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ: الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ: الْيَمِينُ مَعَ النِّسْيَانِ، فَلَا شَكَّ فِي إلْغَائِهَا؛ لِأَنَّهُ إذْ قَصَدَ زَيْدًا فَتَلَفَّظَ بِعَمْرٍو فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ قَصْدِهِ، فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ يُحْكَى.
وَالْمُتَعَلِّقُ الثَّالِثُ: فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، فَيَنْزِلْ بِهِ كَذَا، فَهَذَا قَوْلٌ لَغْوٌ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ فِي الْعَقْدِ مَكْرُوهٌ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَرُبَّمَا صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهَا».
وَالْمُتَعَلِّقُ الرَّابِعُ: فِي يَمِينِ الْمَعْصِيَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً، وَالْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ مَعْصِيَةً، وَيُقَالُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ فَكَفَّرَ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ فَجَرَ فِي إقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ أَوْ الْكَفَّ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَأَتَّى فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَهَذَا ظَاهِرٌ.
وَالْمُتَعَلِّقُ الْخَامِسُ: فِي يَمِينِ الْغَضَبِ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: يَمِينُ الْغَضَبِ لَا يَلْزَمُ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ يُرْوَى: «لَا يَمِينَ فِي إغْلَاقٍ»، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ، وَالْإِغْلَاقُ: الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّهُ تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَتَرُدُّهُ إلَى مَقْصِدِهِ، وَقَدْ «حَلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي».
وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ جِدًّا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ.
قُلْنَا: هَذَا صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَكْثَرَ الرَّجُلُ فِي يَمِينِهِ مِنْ قَوْلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، عَلَى أَشْيَاءَ يَظُنُّهَا كَمَا قَالَ، فَتَخْرُجُ بِخِلَافِهِ.
أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا يُظَنُّ وَقِسْمًا يُعْقَدُ، فَلَا يُؤَاخَذُ مِنْهَا فِيمَا وَقَعَ عَلَى ظَنٍّ، وَيُؤَاخَذُ فِيمَا عَقَّدَ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، فِيمَا يَعْتَقِدُهُ وَيُعَقِّدُهُ أَنَّهُ لَغْوٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَالتَّهَافُتِ بِهِ.
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} فَنُهِيَ عَنْهَا وَلَا يُؤَاخَذُ إذَا فَعَلَهَا.
هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ الْقَوْلُ اللَّغْوُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَأَنَّهُ الْيَمِينُ عَلَى ظَنٍّ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي أَيِّ قِسْمٍ هِيَ؟: قُلْنَا هِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى وَدَاهِيَةٌ كُبْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَقَدْ أَفَضْنَا فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَوَجْهُ إشْكَالِهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ، فَلَا تَقَعُ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ الْمُنْعَقِدَةِ، تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ.
وَحَلُّهُ طَوِيلٌ؛ اخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ: لَغْوٌ، وَمُنْعَقِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي أَيْمَانِ النَّاسِ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَلَا يَرْضَى بِهَا ذُو دِينٍ أَوْ مُرُوءَةٍ، وَيَحِلُّ الْإِشْكَالُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قِسْمَيْ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ، فَدَعْ مَا بَعْدَهَا يَكُونُ مِائَةَ قِسْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُنْعَقِدَةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَلْبِ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْنَا: عَقْدُ الْقَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ عَقْدًا إذَا تُصُوِّرَ حِلُّهُ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي صَوَّرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي يَمِينِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا؛ فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِي الْكَفَّارَةِ، هَذَا وَقَدْ فَارَقَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْحِلَّ.
وَكَيْفَ تَنْعَقِدُ؟ وَقَدْ مَهَدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ: قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ، وَهِيَ رَبْطُ الْعَقْدِ بِالِامْتِنَاعِ وَالتَّرْكِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ بِمَعْنَى مُعَظَّمٍ حَقِيقَةً أَوْ اعْتِقَادًا.
وَالْمُعَظَّمُ حَقِيقَةً، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ.
وَالْمُعَظَّمُ اعْتِقَادًا، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ.
وَالْحُرِّيَّةُ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَهُ، لِاعْتِقَادِهِ عَظِيمَ مَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ.
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ».
فَسَمَّى الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَالِفًا.
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ النَّذْرِ لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ.
وَالنَّذْرُ يَمِينٌ حَقِيقَةً، وَلِأَجْلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ».
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك، أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا إذَا قَصَدَ بِاَللَّهِ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُذْكَرَ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا.
قُلْنَا: إنْ كَانَ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَقَدْ نَوَاهُ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَهِيَ يَمِينٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ: وَعِلْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا.
وَظَنَّ قَوْمٌ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: إذَا حَلَفَ: وَقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتْ يَمِينًا.
وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْمُحْدَثُ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَذُهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ أَيْضًا تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَقْدُورِ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي الْمَعْلُومِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلِيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» وَلِأَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَنْ قَالَ: وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتِ: عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَعَقَدْتُمْ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَعَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ.
فَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَضْعَفُهَا رِوَايَةً وَأَقْوَاهَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ فَعَلْتُمْ مِنْ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَإِذَا قُرِئَ عَاقَدْتُمْ فَهُوَ فَاعَلْتُمْ، وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ حَلَفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ، وَقَدْ يَعُودُ ذَلِكَ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رَبَطَ بِهِ الْيَمِينَ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِك: طَارَقَ النَّعْلَ، وَعَاقَبَ اللِّصَّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي اللِّصِّ خَاصَّةً.
وَإِذَا قَرَأَ عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: تَعَمَّدْتُمْ.
الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ مَا تَعَمَّدْت بِهِ الْمَأْثَمَ فَعَلَيْك فِيهِ الْكَفَّارَةُ.
الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا كَرَّرَ الْيَمِينَ.
الرَّابِعُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: التَّشْدِيدُ لِلتَّأْكِيدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ: مَا تَعَمَّدْتُمْ فَهُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي مَا قَصَدْتُمْ إلَيْهِ احْتِرَازًا مِنْ اللَّغْوِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ مَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ الْمَأْثَمَ فَيَعْنِي بِهِ مُخَالَفَةَ الْيَمِينِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْكَفَّارَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَسَنَانِ يَفْتَقِرَانِ إلَى تَحْقِيقٍ، وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ التَّشْدِيدِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى التَّكْرَارِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ لِضَعْفِهِ.
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي».
فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّأْكِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى تَكْرَارِ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا: «وَاَللَّهِ» يَقْتَضِي جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّغْلِيظِ بِالْأَلْفَاظِ؟ قُلْنَا: لَا تَغْلِيظَ عِنْدَنَا بِالْأَلْفَاظِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَإِنْ غَلَّظْنَا فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِمُغَلَّظٍ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْإِرْهَابِ عَلَى الْحَالِفِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ اللَّهَ تَعَالَى حَدَثَ لَهُ غَلَبَةُ حَالٍ مِنْ الْخَوْفِ، وَرُبَّمَا اقْتَضَتْ لَهُ رَعْدَةً، وَقَدْ يَرْهَبُ بِهَا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ: {وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} فَأَرْهَبَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ.
وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّشْدِيدَ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْقِدُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْقَصْدِ إلَيْهِ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ الْحَلِفَ بِقَصْدٍ آخَرَ، فَهَذَا هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّكْرَارُ أَوْ التَّأْكِيدُ، بِخِلَافِ اللَّغْوِ فَإِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ وَفَاتَهُ التَّأْكِيدُ بِالْقَصْدِ الصَّحِيحِ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْيَمِينُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّة عَلَى التَّمَامِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَالَ: حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ مُرَكَّبَةٌ عَلَى الْيَمِينِ أَنْكَرُوا لَهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ، وَكَانَ هَذَا لِأَنَّ النُّظَّارَ تَحْمِلُهُمْ مُقَارَعَةُ الْخُصُومِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُنَاقَضَاتِ وَتَرْكِ التَّحْقِيقِ، وَالنَّظَّارُ الْمُحَقِّقُ يَتَفَقَّدُ الْحَقَائِقَ، وَلَا يُبَالِي عَلَى مَنْ دَار النَّظَرُ، وَلَا مَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبٍ.
وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ مَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا؛ وَالِامْتِنَاعُ هُوَ التَّحْرِيمُ بِعَيْنِهِ، وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُحَرِّمُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً كَمُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ يُعَلِّقُهَا عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، كَتَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ، وَالتَّحْرِيمِ بِالْيَمِينِ.
وَيَرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْكَفَّارَةَ مَفْعُولَةً أَوْ مَعْزُومًا عَلَيْهَا.
وَيَرْفَعُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ النِّكَاحَ بِحَسَبِ مَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَبَيَّنَ مِنْ الشُّرُوطِ.
هَذَا لُبَابُهُ، وَتَمَامُهُ فِي التَّلْخِيصِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ بَاقِي قِسْمَيْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ فِيهِ لَغُنْيَةُ الْأَلْبَابِ.
وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ اجْتَمَعُوا وَاعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْأَطَايِبِ مِنْ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ مِنْ الثِّيَابِ وَاللَّذَّةِ مِنْ النِّسَاءِ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَجْلِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ؛ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَحْلِفُوا، وَلَكِنَّهُمْ اعْتَقَدُوا، فَقَدْ دَخَلَتْ مَسْأَلَتُهُمْ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُلْحِقَ قَوْلَهُ: حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ، بِقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت، تَبَيَّنَ لَكُمْ نُقْصَانُ هَذَا الْإِلْحَاقِ وَفَسَادُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ حَرَّمَ وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا قَالَ: حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ، فَتَحْرِيمُهُ وَحْدَهُ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يَلْحَقُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ هَذَا الْإِلْحَاقَ؟ لَا يَخْفَى تَهَاتُرُهُ عَلَى أَحَدٍ.